الرئيسية / الفعاليات العلمية / مقالات / في التقويم و (التقييم)، والرسالة و (الأطروحة)

في التقويم و (التقييم)، والرسالة و (الأطروحة)

في التقويم و (التقييم)، والرسالة و (الأطروحة)
الاستاذ الدكتور عقيل عبد الزهرة الخاقاني 
         جامعة الكوفة ـ كليَّة الآداب
Aqeel.alkhaqani@uokufa.edu.iq

 

  1. في التقويم و (التقييم):
كثُر الحديث عن أنَّ ثمَّة فرقا دلاليا بين (التقويم) و(التقييم). وحقيقة الأمر أنَّ أسماء الأشياء ومصادرها وصفاتها …، تُشتقُّ من جذورها أو موادِّها اللغوية الرئيسة (الفعل المجرَّد). وإذا ما رجعنا إلى المعجمات العربية التي يمكن أن يُركن إليها أو يُعتمد عليها في التراث اللغوي العربي الفصيح الصحيح؛ فإنَّنا لا نجد لـ(التقييم) من أثرٍ يُذكر، جذرا لغويا أو اسما أو مصدرا، فعلماء العربية حين رتبُّوا موادَّ معجماتهم أو كتبهم التي تُعُنى بـ(الفروق اللغوية) فإنَّهم لم يجعلوا للفعل (قَيَمَ أو قيَّم) بابا في ضمن أبواب موادِّهم اللغوية، بل لم يرد لهذا (الجذر) ذكرٌ في مصنَّفاتهم وشروحها، على تعدُّد مناهجهم في البحث والتأليف واختلاف مدارسهم اللغوية والنحوية والبلاغية وطبيعة الثقافات التي يصدرون عنها.
أمَّا المعجمات الحديثة فقد اجتهد مؤلِّفوها فيما لا ينبغي الاجتهاد فيه؛ بحجَّة (التيسير) أو (التطوُّر) الدلالي للمفردات، وهو ما لا ينطبقُ على ما نحنُ فيه؛ ذلك بأنَّ أرباب الفصاحة والبيان قد استعملوا الفعل (قوَّم) وما يُشتقُّ منه استعمالا دقيقا، بحسب السياقات والمقامات التي يردُ فيها، من دون أن يشتَّقوا منه أو يستعملوا (التقييم) فيما أثُر عنهم من أقوالٍ وشواهد.
وقد يحتجُّ بعض الأساتذة الأفاضل بما ورد في القرآن الكريم من آيات بيِّنات في وصف الدين بـ(القيِّم)؛ على أنَّه من الفعل (قيَّم)، كقوله تعالى: ((ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) في سور (التوبة:36، يوسف:40، الروم: 43،30)، أو وصف صحف الله عزَّ وجلَّ بأنَّها صحفٌ مطهَّرة وأنَّ فيها كتبا قيِّمة، في قوله تعالى ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)) البيِّنة:3، فعلماء العربية والمفسِّرون قد أجمعوا على أنَّ المراد بـ(القيِّم)   ـ في الآيات آنفة الذكر ـ : المستقيم الذي لا عِوَجَ ولا زيْغَ ولا ميْلَ عن الحقِّ فيه، و (القيِّمة): المستقيمة التي تبيِّن الحقَّ من الباطل على استواءٍ وبرهان، و(القيِّم) مَن يقوم بالأمر، ومنه: قيِّم المسجد؛ أي مَن يتولَّى أمره، وقد سُمِّي (ابن قيِّم الجوزية) (ت751هـ) أو (ابن القيِّم) اختصارا؛ لأنَّ أباه كان (قيِّما) على المدرسة الجوزية في دمشق. و(القيُّوم): المدبِّر، وهو اسمٌ من أسماء الله الحُسنى، وكلُّها من الفعل (قوم) وليس (قيم).
ويقولُ الفرَّاء (ت 207هـ) في (القيِّم): أصله (قويم)، مثل: سيِّد وسوِيد، جيِّد وجوِيد، بوزن: ظريف وكريم …، وكان يلزمهم أن يجعلوا الواو ألفا لانفتاح ما قبلها (القاف)، ثمَّ يُسقطوها لسكونها وسكون ما بعدها، فلمَّا فعلوا ذلك صارت (قَيْم) على وزن (فَعْل)؛ فزادوا ياءً على الياء ليكتمل بناء الحرف؛ أي أنَّهم أبدلوا من الواو ياءً وأدغموا فيها الياء التي قبلها فصارتا ياءً مشدَّدة، وهذا ما ذهب إليه سيبويه (ت180هـ) من قبل. وقد خصَّص كلٌّ من الراغب الأصبهاني (ت502هـ) ـ في معجمه القرآني الموسوم بـ(المفردات في غريب القرآن)، وابن منظور (ت711هـ) ـ الذي لخَّص لنا التراث المعجمي العربي في معجم واحد، سمَّاه بـ(لسان العرب) ـ، خصَّص كلٌّ منهما عشر صحائف لمادَّة (قوم) وما يُشتقُّ منها، من دون أن يكون لـ(التقييم) محلٌّ من الذكر أو الاعراب، لغةً وقرآنا، وكذلك الحال في بقية معجمات العربية التي نرجع إليها في الدرس الأكاديمي؛ ابتغاء الوقوف على صحَّة الاستعمال اللغوي العربي الفصيح الصحيح([1]).
وفي ضوء ما تقدَّم فإنَّ (القيام، والقيامة، والقيِّم، والقيُّوم، والقويم، والتقويم …، إلى غير ذلك من الأسماء والمصادر والصفات، قد اشتُّقت من الفعل (قوم) وليس (قيم) الذي لم يُستعمل فيما أُثر عن فصحاء العربية في منظوم قولهم ومنثوره.
وممَّا يجدر ذكره في هذا الشأن أنَّ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كانت قد استشارت بعض أساتذتنا الكبار في تسمية (جهاز الاشراف والتقويم)؛ فأشاروا على المعنيين بهذا الأمر في الوزارة بأن يكون على هذا النحو، وليس جهاز الاشراف و(التقييم).
  1. الرسالة و (الأطروحة):
ليس من نافلة القول أن أُشير إلى غلطٍ آخرَ من الأغلاط الشائعة في مؤسَّساتنا الأكاديمية؛ يتمثَّل في تسمية رسالة الدكتوراه بـ(الأطروحة) تمييزا لها من رسالة الماجستير. وتلك مشكلةٌ من مشكلات الترجمة، وغياب الدقَّة في استعمال المفردات والألفاظ على النحو الذي يتناسب مع معانيها والسياقات التي ترد فيها. ومن اللافت للنظر أنَّ هذا الأمر لا يقتصر على غير المتخصِّصين، إنَّما يقع فيه كثيرٌ من المتخصِّصين في علوم العربية وآدابها؛ فمادَّة (طرح) وما يُشتقُّ منها لم ترد في كتاب العربية الأكبر وسِفْرها الخالد إلَّا في موضع واحد، بصيغة (اطرحوه)، وذلك في قوله تعالى: ((اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)) يوسف:9، وقد أجمع المفسِّرون على أنَّ المراد بـ(اطرحوه أرضا): انبذوه إلى مكان قصيٍّ بعيد؛ ابتغاء التخلُّص منه. والجاحظ (ت255هـ) يقول: ((المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربيُّ والعجميُّ والبدويُّ والقرويُّ …، وإنَّما الشأنُ في إقامة الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج …، فإنَّما الشعرُ صناعةٌ وضربٌ من النسج وجنسٌ من التصوير))([2])؛ أي أنَّ المعرفة بمعاني الحياة العامَّة التي يتَّفق عليها العقلاء لا شأنَ لها وحدها في صناعة الشعر، إذ تتهيَّأ للشاعر ولغير الشاعر؛ لذا وصفها بأنَّها (مطروحة)، ثمَّ جاء بـ(إنَّما) ليحصر بها عناصر الأداء الفني التي يكون لها (الشأن) في قول الشعر؛ إذ يصير بها الكلام شعرا.
وجاء في (لسان العرب): طرح بالشيء وطرحه: رمى به …، والطَّرْح: الشيء المطروح لا حاجة لأحدٍ فيه. وكلُّ المعاني التي أوردها أصحاب المعجمات لهذه المادَّة تدور في فلك هذا المعنى([3])، حتَّى أنَّ أمهاتنا وجدَّاتنا يستعملنَ هذه المفردة بأفصح ممَّا نستعملها؛ إذ يتحدَّثن عن أنَّ فلانة قد (طرحت) إذا ما وقعت عليها شدَّةٌ ما أو أصابها عارضٌ صحِّيٌّ أدَّى إلى إسقاط جنينها.
وربما اعتقد مَن ترجم مصطلحي (Thesis) و (Dissertation) بأنَّ عليه أن يفرِّق بين هذين المصطلحين في (الموصوف) نفسه وليس في (الصفة). وحقيقة الأمر أنَّ التفريق يقتضي أن يكون في الصفة لأنَّ الموصوف أو المسمَّى (البحث) واحد؛ أي أنَّ الأصل هو أن يُنجز الطالب (بحثا)، سواءٌ أكان في الماجستير أم في الدكتوراه؛ فيسمَّى في الماجستير (رسالة ماجستير) وفي الدكتوراه (رسالة دكتوراه)؛ على أنَّ كلَّا منهما (رسالة) أو بحثٌ، وإن اختلفا في بعض الخصائص العلمية لكلٍّ منهما؛ لكي لا نقع في هذا الغلط المركَّب الذي يتمثَّل ـ أوَّلا ـ فيما تقدَّم، ومن ثمَّ نظنُّ أنَّ المصطلحين مختلفان في أصل الموضوع، على حين أنَّ التعريف بهما في قواميس اللغة الإنجليزية ومصطلحاتها يكادُ يكون متطابقا.
ومع أنَّ مصطلح (Thesis) تُطلقه أغلب الجامعات البريطانية على رسائل الماجستير والدكتوراه معا، بيدَ أنَّ بعضها تُقصر استعماله على رسائل الماجستير، وتستعمل مصطلح (Dissertation) مع رسائل الدكتوراه، ويُعرَّف بأنَّه:
A long piece of writing on a particular subject that you do as part of university degree.
أمَّا (Dissertation) ـ الذي أطلق أوَّل مرَّة على رسائل الدكتوراه في الجامعات البريطانية سنة 1651م، ومن ثمَّ انتقل إلى الولايات المتَّحدة سنة 1890م؛ ليؤدِّي المعنى نفسه، على أن يقترن بإضافة معرفية جديدة ـ فيُعرَّف بأنَّه:
A long piece of writing on something that you have studied, especially as part of university degree.       
إذن، في الحالين هو: (A long piece of writing)    
                    (as part of university degree) &
وهذا يعني أنَّ الأصل واحد يتمثَّل بـ(كتابة بحثٍ جزءا من مستلزمات الحصول على شهادة جامعية)، فإذا كان الغرض منه الحصول على شهادة الماجستير يُسمَّى بـ(رسالة ماجستير)، وإذا كان للدكتوراه فيسمَّى بـ(رسالة دكتوراه).
وتقرن أغلب الجامعات الرصينة بين هذا المصطلح (Dissertation) وأن يحقَّق الباحث إضافة معرفية جديدة، بل هي فرصته (opportunity)؛ لكي يُسهم في إضافة هذه المعرفة في تخصًّصه أو حقل دراسته، سواءٌ أكان على المستوى النظري أم العملي أو التطبيقي، وهذا ما كانت عليه جامعاتنا من قبل.         
 Dissertation is your opportunity during a doctorate program to contribute new knowledge, theories or practices to your field.
 
مع خالص تحياتي وعظيم احترامي.
([1]) أنظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصبهاني، الأنجلو المصرية، القاهرة،1970م، ولسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، (د.ت)، مادَّة (قوم).
([2]) الحيوان، الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون:3/131، 132.
([3]) أنظر: لسان العرب، مادَّة (طرح).

شاهد أيضاً

الجغرافيا حول البيت

الجغرافيا حول البيت بقلم أ.د. صفاء مجيد المظفر   أنا أسكن في مدينة النجف الأشرف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.